الاتجاهات الحديثة في فن المنظر المسرحي

المقاله تحت باب  سينما و مسرح
في 
18/01/2009 06:00 AM
GMT



ليس هناك من اتجاه مفرد ومعروف جيداً في فن المنظر الحديث او في أي جانب من جوانب المسرح. وبدلاً من ذلك هناك نشاط تجريبي مهتاج وتطورت من خلاله العشرات من الاتجاهات الواضحة قليلاً او كثيراً مع مجموعة متشابكة من التأثيرات والتأثرات المعاكسة يصعب تحليلها. وتأصل الكثير من هذا النشاط في رد الفعل حيال الواقعية المزيفة تلك التي نراها في المناظر المرسومة على (الكنفاس) من استخدام القرن الاخير (التاسع عشر).

واليوم يصعب على الشخص ان يدافع عن تلك المناظر بابوابها المهلهلة وجدرانها المتهدلة وظلالها المرسومة بالالوان وابعادها الكاذبة واجنحتها وستائرها التي لا تقنع. وكان للثورة عليها اثارة كافية.
ولكنها من البدائة والغرابة ثورة مشوشة ثورة ضد الواقعية وضد الاصطناع في الوقت ذاته ومساندوها ما زالوا  يدافعون عن كل الامور غير المترابطة منطقياً وربما استناداً الى المبدأ العام ان أي تغير يقود الى التحسين. انها ادانة لاخطاء معاكسة وللاسباب نفسها، والاخطاء نفسها لاسباب معاكسة. انها شجب لكل محاولة لجعل المسرح واقعياً وباللحظة نفسها شكوى ما مبهرج وغير مقنع. ويسخر اولئك المتمردون من جدران الكنفاس المتهدلة بتفاصيلها المرسومة ولكنهم يحزنون لمحاولة بناء جدران اكثر اقناعاً وبتفاصيل حقيقية. وهم اذ ينشدون الغاء الاضاءة القدمية باعتبارها غير طبيعية فأنهم يدينون عبادة الواقعية التي اوجدها الراحل (ديفيد بيلاسكو) الذي كان من اوائل الذين الغوا الاضاءة القدمية. ويدينون المسرح داخل البنايات بالكامل باعتباره اصطناعيا إذ يدينون مسرح الاغريق المضاء بالشمس الطبيعية فأنهم يمتدحون الخلفية المعمارية لذلك المسرح باعتبارها ليست واقعية بل تجريد معبر عن العاطفة. وهم يشكون من ان استخدام الاضاءة الاصطناعية لتمثيل ضوء النهار هي ليست بيضاء بما فيه الكفاية وليست منتشرة بما فيه الكفاية لتكون مقنعة. ويشكون من ان مسرح الاطار هو ذو بعدان وغير طبيعي ويدينونه لواقعيته ويدافعون عن مسرح المنصة باعتباره اكثر مسرحياً. وباختصار فهم يكشفون باستمرار عن ذوق ممتاز ويمزجون دوافعهم بشكل مريع.

في محاولتهم تطوير نظرية مرضية عن فن المنظر، فقد تأثر التجريبيون، بالحركات المعاصرة للفنون الاخرى كذلك بالمؤثرات الاجتماعية التعليمية البارزة لهذا العصر، بما في ذلك تأثير الحربين العالميتين. لقد سقطت الواقعية في هوة كراهية الرسم، وفن النحت، وفن الموسيقى، وكذلك في المسرح، مما ادى الى ظهور انواع مختلفة من الاسلوبية والتجريد في جميع الفنون، مع ظهور مآثر الواقعية المفرطة بين الحين والاخر، كما في التفاصيل الواضحة التي تلتقطها كاميرات التصوير الفوتوغرافي او في افلام الرعب كما سميت من فناني الحرب.

وفي المسرح، كانت الحركات التي وقفت ضد الواقعية قد اعتمدت التبسيط والرمزية، والاسلوبية، والشكلانية، والبلاستيكية، والتعبيرية، والتكعيبية، والتركيبية، والسوريالية. وتشمل تلك الاتجاهات خلط في الاصطلاحات بحيث لا يمكن اعتبارها حركات منفصلة ومتميزة. وبدقة اكثر، هي دوافع او اتجاهات تعمل احياناً بشكل متفرد وتعمل احيان اخرى مجتمعة بتجمعيات مختلفة، واحياناً اخرى باهداف متقاطعة، وعند تفسيرها بشكل واسع نجدها تغطي اكثر التجارب اهمية في فن المنظر للقرن العشرين. ولكي نفهمها بشكل مناسب يجب ان نولي اهتماماً اولاً للتطورات الاكثر حداثة في الواقعية نفسها.
 
الواقعية في فن المنظر

كما افترضنا سلفاً، فقد بدأت الواقعية في وقت مبكر جداً نتيجة للدافع العرضيٍ باتجاه الادهاش او التأثير. وظل ذلك الدافع سبباً لظهورها وبقائها لفترة طويلة من الزمن. وتبدل الدافع بعد ذلك نحو افتراض المكان وتصويره بشكل مقنع ومنسجم. وعندما تحققت واقعية اكثر في بعض عناصر الانتاج المسرحي تناقضت العناصر الاخرى بشكل غير مستحب على انها غير حقيقية وغير مقنعة. وظهر منذ ذلك النقد مبكراً ايضاً، وظهرت اولى اشارات له في كوميديات (ارستوفانيس). وفي العهد الاليزابيثي، حيث سخر من الواقعية المرسومة تلك التي استخدمت في المسارح العامة وخصوصاً تلك التي قام بها اولئك الذين شاهدوا المناظر المضخمة في مسرحيات القصور وفي دور الاوبرا الايطالية. وجاءت السخرية من المنظر الايطالي المرسوم بناءً على عدم اتساقه مع الممثل الذي يتحرك حياً على خشبة المسرح خلال القرن الثامن عشر امام خلفية مرسومة ومضاءة باضاءة فقيرة. لم يكن التحدي عظيماً، ولكن عندما حل القرن التاسع عشر وتقلصت الحافة الامامية لخشبة المسرح وتحسنت الاضاءة المسرحية واتضحت معالم المنظر المرسوم تزايد عدم الاقتناع واصبح النقد الموجه له اكثر قسوة. وقد دعى مدراء المسارح المتعبين النجارين والرسامين لمواجهة ذلك النقد ولم يفعل اولئك اكثر مما عرفوا كيف يفعلوه فقد بنوا مناظر اكثر فخامة ورسموها باعتناء اكثر، وتلاعبوا بالمنظور وربما ازالوه تماماً. واستخدموا المنظر الصندوقي بدلاً من الاجنحة والستائر التي كانت مستخدمة للمناظر الداخلية واستخدموا الملحقات الحقيقية بدلاً من تلك المصنوعة والمرسومة. ومع ذلك ظل النقاد غير مقنعين.

ثم جاء الوقت الذي ظهر فيه الميكانيكية التي بدأ في اوروبا باستبدال آليات المسرح القديمة بآليات اخرى حديثة اكثر علمية. وتطورت خشبة الى قاعدة هايدروليكية اخرى منزلقة زاخرى دواره واستخدمت السايكوراما والمنظر المجسم ونظام الاضاءة الاكثر حداثة. وبرغم تكيف تلك الوسائط لاغراض غير الواقعية فلابد من الاقرار بشيوع استخدامها كوسائط لاظهار الواقعية. وقد ظهر المسرح المصعد –الذي يصعد ويهبط- لغرض نقل المناظر الكبيرة التي تستخدم في الاوبرا ولغرض تبديلها بين مشهد واخر من دون تأخير. وظهرت السايكلوراما كرد فعل ضد الستارة الخلفية المرسومة دلالة للسماء والافق. ولكن كل تلك الميكانيكية لم ترض المتمردون حيث ادعوا ان المسرح ظل غير واقعي. وعند هذه النقطة حدث التغير في النظرة الى الواقعية، حيث قال بعضهم: «دعونا نلغي جميع المحاولات التي تبغي تصوير الخلفية المنظرية واقعياً ولنعد الى عامل التمسرح الصريح ذلك الذي كان مستخدماً في العهود القديمة». وقال اخرون: «اذا كان لابد للمسرح من ان يكون مصطنعاً اذ دعونا نوفر معاناتنا لجعله اكثر واقعية»، وهكذا اشتبك الاتجاهان – الواقعي واللاواقعي، وحاول كل منهما تصحيح خطأ الاخر.

وعلى العموم فان فنان الواقعي الحديث اكثر وضوحاً واكثر تماسكاً من اللاواقعي، اذ ظل هذا الاخير مجرباً يتقافز بين هذه الطريقة الجديدة وتلك يعرف الواقعي ما يريد، وهدفه ان تكون الدراما (مرآة الحياة)»، تعكسها كما هي او كما يراها. وغرض المنظر المسرحي بالنسبة له تصوير الخلفية فاذا كانت لغرفة فيجب ان يكون المنظر مشابهاً لها وبدلاً من محاكاتها بوساطة الرسم بالالوان فانه يحاول بناءها بمتانة وبعمق وفي تفاصيل التأثيث لكي تبدو الغرفة حقيقية. وهو يعرف من الناحية العملية ان شيئاً من الخداع يبقى موجوداً بل ويكون ضرورياً احياناً اذ يصنع الاشياء لتبدو حقيقية وهي في الواقع المسرحي ليست كذلك. وهكذا ظل الايهام والانسجام والكمال واحداً من اهدافه.
كثيرة هي التهم الموجهة للواقعية ولكن اهمها هي محاولة تشتيت انتباه المتفرج وابعاده عن الممثل وتخريب الايهام بالواقع بالجمع بين الممثل الحي والمنظر المصطنع، وما ينتج عن ذلك من تخريب المسافة الجمالية. وتسري التهمة الاولى على واقعية الخلفية المنظرية اكثر مما تسري على الملحقات المسرحية والفعل الدرامي، وخصوصاً عند المبالغة في تفاصيل تلك الخلفية. وعندما تكون بارزة الى حد ان يجذب انتباه المتفرج مع ان تلك التفاصيل قد لا تكون ضرورية. وتقول التهمة الثانية ان الواقعية تضعف الايهام عند المقارنة بين الخلفية المصنوعة والملحقات الحقيقية. وهنا يحدث الخطأ في عدم التمييز بين ايهام الخيال وايهام الخداع. ويبقى المخرج المسرحي في امان حين يحاول اثارة الايهام الناتج عن الخيال حيث يعمل الافتراض عمله وحيث تقبل العناصر الواقعية على انها رموز وليس فيها من الخداع شيئاً. ولكن ما ان تكثر العناصر الواقعية بتفاصيلها غير الضرورية حتى يظهر الخداع وتتوضح المقارنة بين ما هو واقعي وما هو غير واقعي، وهو امر غير مستحب. وحيث لا يمكن للمحاكاة ان تتطابق مع الواقع عندها تصبح العملية برمتها بلا جدوى ويبقى عدم الرضى قائماً.

وفي السينما يصبح تحقيق الواقعية التمثيلية ضرورياً ويعرف المتفرجون كم يكلف ذلك وما هو مقدار المرونة حيث يمكن تحريك الكاميرا الى أي مكان لتصوير الاحداث في مواقعها وبغض النظر عن تسلسلها وعن كمية الوقت الذي ينقضي في تغير تلك الاماكن. فقد شاهد المتفرجون كيفية اعادة بناء قصر فرساي او بناية مجلس الشيوخ في واشنطن وبشكل مضبوط داخل احد ستوديوهات هوليوود، وبدت البنايات وكانهما حقيقيتان عند تصويرهما. وطبيعي ان يتوقع رواد  السينما ذلك الكمال المطلوب ولا يأخذهم العجب ولا يصرف انتباههم عن الممثلين كما يحدث في المسرح.
ومن بين العناصر التي يقع عليها الخداع – خداع النظر- وما يحدث الارباك لدى رواد المسرح هو (المنظور) –الابعاد الثلاثة- المصطنع وما يتبعه من تظليل مصطنع خصوصاً ذلك الذي ينتج عن الرسم بالالوان سواء في الخلفية المنظرية ام في المواد المجسمة خصوصاً في حالة تزينها، حيث تبقى المحاكاة بلا حياة كما يحدث مع الاشجار والشجيرات والحيوانات والقوارب والبواخر والقطارات وما شابه مما يصّنع للاغرض المسرحية، وخصوصاً عند تحريكها. وهذا ما يحدث ايضاً عند تمثيل الشمس والقمر والنجوم والفيضان والزوابع وحرائق الغابات وما شابه ما يدعو الجمهور الى المقارنة بين الواقع في الحياة والواقع على المسرح.

اما التهمة الثالثة الموجهة للواقعية فهي انها تخاطر بالمسافة الجمالية –وهذا يسري على تمثيل الممثلين اكثر من سريانه على المنظر، وخصوصاً عندما يندمج المتفرجون في الحدث ويفقدون احساسهم بالانفصال الضروري للتذوق ويصبح الموقف الجمالي في خطر.

ومقابل هذه التهم قدم الواقعيون حججاً عديدة خلال دفاعهم. وفي المقام الاول اشاروا الى ان التزامهم، ولفترة طويلة، بمبدأ التمثيل التصويري للمكان يدعوهم الى الصدق والى تحقيق الواقعية بشكل كامل بدلاً من انصاف الحلول. وادعوا ان الابتعاد عن الواقعية في المنظر يؤدي الى ابعاد العديد من المسرحيات الممتازة والمتعة التي كتبت باسلوب واقعي ولكي تنتج واقعية ايضاً بحيث لا يمكن انتاجها باسلوب المسرحيات الاغريقية او الاليزابيثية او الصينية. وقد اصروا على ان اللاواقعية قد تكون اكثر الهاءاً وارباكاً للمتفرجين. كما ادعوا ان الواقعية اذا ما اصبحت ثانوية في تأثيرها وبشكل مناسب فستكون اقل اقحاماً من التعبيرية او الاسلوبية وذلك لانها اكثر شبيهاً للحياة التي اعتدنا عليها.
ويبدو ان هناك شيئاً من الصدق في هذه الحجج وخصوصاً الاخيرة منها، حيث ان المنظر الواقعي يتناسب مع المسرحية الواقعية تناسباً طردياً لانه اكثر اقناعاً من غيره. وينطبق ذلك كثيراً على الفيلم السينمائي حيث لا يعترض الجمهور على التفاصيل الواقعية التي تصورها الكاميرا. ولا يصدر الاعتراض الا عندما يظهر التزييف وعندما تستدعي التفاصيل الواقعية صرف النظر عن الممثلين. ولعل من اهم الاسباب التي تدعو الى استخدام الواقعية في الفيلم السينمائي اكثر من استخدامها في الصورة المسرحية ومن غير فقدان للمسافة الجمالية، هو ان المتفرج في السينما لا ينس انه يرى صورة – وربما صورة جد حقيقية للواقع ولكنها ليست الواقع نفسه، بينما في المسرح تركز العين على الممثلين الاحياء مقابل خلفيتهم الجامدة. اما على الشاشة فالكاميرا هي التي تصنع التركيز.

ومن الناحية النفسية، هناك فرق مهم يفسر لماذا يصبح الموقف الجمالي في زاوية حرجة  ومن الصعب خلق التوازن في المسرح وان السيئة العظمى للواقعة على المسرح، كما تبدو لي، هي الجهد المستمر لتحقيق الكمال من دون اخذ الصلة بالموضوع بنظر الاعتبار. واذا ما فحصنا الاعتراضات على الواقعية نجد ان معظمها اعتمد على الاخطاء.

التنظيم الاخير اسلحة النقّاد. وعندما يكون تأثير الواجهة واقعياً مبسطاً وتكون اهمية الخلفية ثانوية ينجح المخرج في تركيز انتباه المتفرجين على الممثلين وبذلك يشبه الرسام الذي يرسم الشخوص الرئيسة بدقة واقعية ويهمل الخلفية تماماً او يدلل عليها بخطوط خفيفة.

وتتنوع استخدامات الواقعية المبسطة اكثر مما يحدث مع اية طريقة اخرى من طرائق عن المنظر المسرحي. ويمكن ايضاً اضافتها الى الاساليب الاخرى حيث لا يمكن تميزها بسهولة. وتقترب الواقعية المبسطة احياناً من الرمزية لان وظيفتها الرئيسة افتراض المكان او الجو في لحظة ما وحيث يتم الكثير من الاختزال او الاسلبة مما قد يؤدي احياناً الى تزييف المكان وتخريب الجو النفسي.